جواز السفر الميت.. عبء قانوني يتحوّل إلى حصار بلا نهاية للاجئين
جواز السفر الميت.. عبء قانوني يتحوّل إلى حصار بلا نهاية للاجئين
في عالم يتباهى بحرية التنقل كحق من حقوق الإنسان الأساسية، تظل جوازات السفر رمزًا للانتماء والهوية، وثيقةً تعكس مكانة الفرد في المجتمعات الدولية، وتفتح له أبواب العالم، غير أن هذا الامتياز لا يُمنح للجميع، بل يُعتبر رفاهية تميز صاحبها عن أولئك الذين يفتقرون إلى هذه الوثائق الأساسية، مثل اللاجئين الذين يعانون من انعدام الجنسية أو الذين لا يمتلكون سوى "جواز السفر الأزرق" الصادر عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
وبينما يُفترض أن تكون هذه الوثيقة وسيلة حماية، فإنها في الواقع تتحول إلى عبء ثقيل، لتصبح رمزًا للنفي أكثر منها لحماية الحقوق الإنسانية، ومع مرور الوقت، تتحول هذه الوثائق من أداة انعتاق إلى قيد قانوني، يعزل صاحبها ويمنعه من العيش بكرامة.
ووفقًا لأحدث البيانات الصادرة عن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في يونيو 2024، يعيش نحو 6.4 مليون لاجئ حول العالم في حالة انعدام الجنسية بشكل كامل، وهو ما يعني أنهم لا ينتمون إلى أي دولة، بالإضافة إلى ذلك، هناك 12.7 مليون لاجئ آخرين يعيشون في حالة غامضة، يحملون وثائق سفر لا تمنحهم أي حقوق سياسية أو مدنية حقيقية.
هؤلاء اللاجئون هم ضحايا "الموت المدني"، فهم محرومون من أبسط الحقوق، مثل فتح حسابات مصرفية، الحصول على رخصة قيادة، أو حتى السفر بحرية، وهؤلاء الأشخاص لا يتجاوزون كأرقام إحصائية، بل هم بشر يعانون من معاناة مستمرة ومعقدة تجعل حياتهم أكثر صعوبة مما يمكن تصوره.
حاجز غير مرئي
تكمن المفارقة هنا في أن المجتمع الدولي، الذي يتبنى خطابًا إنسانيًا حول حقوق اللاجئين، يتبنى أيضًا سياسات بيروقراطية معقدة تزيد من معاناتهم، فوفقًا لتقارير منظمة "هيومن رايتس ووتش"، يواجه 78% من حاملي وثائق سفر اللاجئين رفضًا ممنهجا عند محاولة التقدم بطلب تأشيرة لدول أخرى، ليس بسبب مخاطر أمنية حقيقية، بل فقط بسبب أن كلمة "لاجئ" مكتوبة في وثائقهم، وهذا يعكس تمييزًا قانونيًا واضحًا ضدهم، ويجعلهم عالقين في حلقة مفرغة من رفض التأشيرات والمراقبة الدولية التي تؤدي إلى مزيد من العزلة والتهميش.
ومن جانب آخر، لا يقتصر التعامل مع اللاجئين على رفض التأشيرات فحسب، بل يمتد إلى العديد من القوانين والسياسات التي تضعهم في حالة من النفي الدائم، في مطار شارل ديغول بباريس، على سبيل المثال، توثق جمعية "العون القانوني للمهاجرين" ما يقارب 320 حالة احتجاز سنويًا لأشخاص يحملون وثائق سفر اللاجئين الصادرة عن الأمم المتحدة، ولا تعتبر هذه الحالات استثناء، بل هي جزء من معاناة مستمرة، حيث أن هؤلاء الأشخاص لا يستطيعون إثبات وجهة العودة بعد انتهاء مدة تأشيراتهم، وهو ما يجعلهم عالقين في "اللا مكان"؛ لا يملكون حقًا في العودة إلى بلدهم ولا يُعترف بهم في الدول التي يقيمون فيها.
ويظهر الواقع فجوة واسعة بين النصوص القانونية والتطبيق الفعلي لحقوق اللاجئين، خاصةً مع رفض 45 دولة حول العالم الاعتراف بوثائق سفر اللاجئين كبديل لجوازات السفر العادية، ويؤدي هذا الرفض إلى حرمانهم من الحصول على أبسط الخدمات التي قد تتيح لهم العيش بكرامة، مثل فتح حساب مصرفي أو الحصول على رخصة قيادة.
وفي سياق السياسات التي تحول اللاجئين إلى ضحايا صامتين، يتبع العديد من الدول استراتيجيات تتسم بالتحايل والتعجيز لضمان استمرار هؤلاء الأشخاص في حالة من عدم الاستقرار الدائم، فعلى سبيل المثال، بعض الدول تمنح للاجئين تأشيرات إقامة قصيرة الأجل، ولكنها تتضمن شروطًا تعجيزية مثل اشتراط إثبات دخل يفوق ثلاثة أضعاف المتوسط المحلي، وهذا الأمر يصبح مستحيلاً بالنسبة لمعظم اللاجئين، الذين يعتمدون على المساعدات الإنسانية أو يعملون في وظائف غير رسمية وغير مستقرة.
عوائق بلا سياج
سياسة أخرى تُعرف بـ"الجدران الورقية"، حيث تقوم الحكومات برفض التعامل مع وثائق سفر اللاجئين في المعاملات الرسمية، مما يترتب عليه حرمانهم من القدرة على استئجار منزل، أو تسجيل أطفالهم في المدارس، أو حتى الحصول على رعاية صحية كاملة، هذا النوع من السياسات يجعل اللاجئين في حالة من الإقصاء المستمر عن المجتمع، ما يعزز عزلتهم ويضاعف معاناتهم اليومية.
وهناك أيضًا استغلال لحالة انعدام الجنسية لدى العديد من اللاجئين، حيث تقوم بعض الحكومات بترحيلهم إلى دول ثالثة ليست بلدانهم الأصلية، وترسخ هذه السياسات واقعًا من الترحيل المستمر دون ضمانات قانونية، مما يزيد من الوضع المعقد لهؤلاء الأشخاص الذين يواجهون وضعًا قانونيًا غير مستقر ولا يحملون أي ضمانات للحقوق الإنسانية الأساسية.
وعلى سبيل المثال، في ألمانيا، رفضت السلطات في عام 2023 ما يقارب 45% من طلبات تجديد الإقامة لحاملي وثائق اللاجئين، بحجة "عدم كفاية الوثائق"، وفقًا لتقرير "المركز الأوروبي لحقوق اللاجئين"، ولم يكن هذا الرفض ناتجًا عن تهديدات أمنية أو وجود مخاطر حقيقية، بل كان في الأساس انعكاسًا لسياسة ممنهجة تهدف إلى جعل إقامة اللاجئين غير مستقرة، وبالتالي دفعهم إلى المغادرة طواعية.
ومن الحلول المطروحة لتخفيف معاناة اللاجئين في ظل هذه السياسات الجائرة تأتي فكرة "إعادة التوطين". ولكن، الواقع يشير إلى أن هذا الخيار بعيد المنال للغالبية العظمى من اللاجئين، ووفقًا لبيانات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، هناك 1.2 مليون لاجئ بلا وثائق مؤهلون نظريًا لإعادة التوطين، لكن فقط 4% منهم يحصلون فعليًا على هذه الفرصة سنويًا.. بل إن متوسط فترة الانتظار لدراسة ملف إعادة التوطين يبلغ 78 أسبوعًا، أي ما يقارب سنة ونصف.
وتمثل الحالة السورية مثالًا صارخًا لهذه المأساة، حيث يعيش 65% من اللاجئين السوريين في دول الجوار دون وثائق ثبوتية، مما يجعلهم غير مؤهلين للتقدم بطلبات إعادة التوطين، وهكذا، يجد اللاجئون أنفسهم في دوامة من الإجراءات البيروقراطية المعقدة، التي تجعل الحصول على حل دائم أمرًا شبه مستحيل.
الحماية الدولية والتحديات القانونية
أوضح الدكتور مصطفى سعداوي، أستاذ القانون الدولي، أنّ قضية اللاجئين، لا سيما أولئك الذين فقدوا جنسياتهم، تُعد من أبرز التحديات التي تواجه النظم القانونية والدولية في القرن الحادي والعشرين، مؤكدا أن الاتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين لعام 1951، وتعديلاتها، لا تترك مجالًا للتمييز أو التفاوت في الحقوق بسبب الأصل العرقي أو الدين أو اللغة أو الجنسية أو حتى المعتقد، بل تضع معيارًا إنسانيًا بحتًا يُلزم الدول الموقعة عليها بالتعامل مع اللاجئين على أساس من المساواة مع الأجانب المقيمين، دون تمييز.
وأوضح سعداوي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن اللاجئ، كما تعرفه الفقرة الثانية من المادة الأولى من اتفاقية عام 1951، هو كل شخص يوجد خارج بلده الأصلي بسبب خوف مبرر من الاضطهاد القائم على العرق أو الدين أو الجنسية أو الانتماء لفئة اجتماعية معينة أو الرأي السياسي، ولا يستطيع، أو لا يرغب، في العودة إلى بلده خشية هذا الاضطهاد، كما يشمل التعريف الأشخاص عديمي الجنسية الموجودين خارج مكان إقامتهم المعتاد، والذين لا يستطيعون أو لا يرغبون في العودة لأسباب مماثلة.
وأشار إلى أن الالتزامات المترتبة على الدول المضيفة للاجئين، والموقعة على الاتفاقية، تتجلى في ضرورة عدم التمييز في الحقوق، لا بين اللاجئين أنفسهم، ولا بينهم وبين الأجانب المقيمين. كما ألزمت الاتفاقية الدول بأن تمنح اللاجئين، على الأقل، معاملة مساوية لتلك التي تمنح للأجانب في أراضيها في ما يتعلق بممارسة الشعائر الدينية، والتعليم، والحصول على الخدمات الصحية، وحقوق العمل. وأوضح سعداوي أن الاتفاقية لا تلزم الدول بمعاملة تفضيلية، وإنما بمعاملة تقوم على قاعدة “المساواة مع الأجانب”، وهو ما يشكل الحد الأدنى من الحماية الدولية.
وأوضح أن انعدام الجنسية يمثّل قطيعة قانونية مع الدولة، حيث تُفقد الرابطة القانونية التي تقوم عليها الجنسية، وبالتالي يصبح الشخص "غير موجود" قانونيًا أمام الأنظمة الوطنية. هذا الوضع يحرمه من الحقوق الأساسية مثل التعليم، والرعاية الصحية، والزواج القانوني، والمشاركة السياسية أو التصويت، لأن هذه الحقوق لا تُمنح إلا لمن يرتبط بالدولة برابطة قانونية، هي الجنسية.
ولفت سعداوي إلى أن عددًا كبيرًا من اللاجئين السوريين ممن لجأوا إلى دول الجوار أو إلى أوروبا واجهوا حالات انعدام جنسية، بسبب فقدان الوثائق أو تعقيدات قوانين الجنسية، خاصة تلك التي تقوم على أسس تمييزية بين الرجل والمرأة، وهو ما أثار انتقادات واسعة من قبل الفقه الدولي، لما في ذلك من إضرار بالكرامة الإنسانية وحقوق الطفل والأسرة.
وأشاد بالدور الذي قامت به الدولة المصرية في استقبال اللاجئين، لا سيما من الدول الشقيقة، مؤكدًا أن مصر التزمت بأكثر من مجرد بنود الاتفاقيات، وقدمت نموذجًا إنسانيًا متفردًا في التعامل مع اللاجئين. وأشار إلى أن الرئيس المصري لم يستخدم في خطابه الرسمي كلمة "لاجئ"، بل وصفهم بأنهم "ضيوف مصر"، وهو موقف رمزي يحمل دلالة أخلاقية وقانونية عميقة، تعكس سياسة دولة تسعى إلى احتضان الفارين من الحروب والاضطهاد لا معاملتهم كعبء أو تهديد.
وختم د. سعداوي، حديثه بالتأكيد على ضرورة تطوير التشريعات بما يضمن حماية اللاجئين وعديمي الجنسية، لا سيما في ظل التحولات السياسية والأمنية المتسارعة في العالم، مشددًا على أن مستقبل الإنسانية لا يقاس بقدرة الدول على صد الهجرة، بل بقدرتها على حماية من لا وطن لهم، ومن لا صوت لهم، ومن تقطعت بهم السبل في عالم يتغنى بالحرية بينما يغلق أبوابه في وجوه أكثر الناس حاجة إليها.
وثيقة عبور نحو العدم
قالت خبيرة القانون الدولي أسماء محمد، إن جواز سفر اللاجئ، الذي يُفترض أن يكون وثيقة حماية وتنقّل، قد تحوّل فعليًا إلى عبء قانوني ونفسي، بل إلى ما يمكن تسميته بـ"جواز السفر الميت"، لا يعترف به أحد، ولا يضمن لصاحبه أي حق من الحقوق الطبيعية التي كفلتها المواثيق الدولية، إنه ليس مجرد ورقة، بل هو تمثيل ملموس لحالة منفى حديثة لا تُمارس على الجسد بقدر ما تُمارس على الكيان القانوني، على الهوية، على معنى أن يكون الإنسان موجودًا في هذا العالم ومعترفًا به.
وأضافت في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن هذه الوثيقة، التي تمنحها المفوضية السامية لشؤون اللاجئين أو بعض الدول المضيفة وفقًا لاتفاقية عام 1951 وبروتوكول 1967، تحولت إلى أداة إقصاء بدلًا من أن تكون جسرًا للاندماج والحماية. فبدلًا من أن تُعامل كمستند قانوني يكفل الحقوق، أصبحت بمثابة بطاقة إدانة، لا تفتح أبواب الدخول، ولا تضمن الخروج، وتُعرّض حاملها للرفض على الحدود، للريبة في المطارات، وللاستنكار في السفارات.
وأكدت أن الوضع القانوني لحاملي هذه الوثائق يشهد خرقًا صارخًا للمعايير الدولية التي تفرض على الدول احترام حقوق اللاجئين، ومعاملتهم على الأقل بنفس معاملة الأجانب المقيمين بصفة قانونية. لكن ما يجري هو عكس ذلك تمامًا، إذ يتعرض اللاجئ لحالة من الموت المدني، لا يمكنه العمل بحرية، ولا الدراسة، ولا السفر، ولا حتى فتح حساب مصرفي في كثير من الأحيان. إنه مُجرّد من أدوات الحياة اليومية، في عزلة قانونية تشبه الحصار غير المعلن.
وأشارت إلى أن مأساة اللاجئ تتفاقم حين يكون أيضًا منعدِم الجنسية، أي أنه لا يُعترف به كأحد رعايا أي دولة في العالم. في تلك الحالة، يتحول الإنسان إلى كيان بلا مرجعية قانونية، بلا وطن، وبلا حماية. يعيش بين الحدود، على هامش الجغرافيا، ويُحرم من أبسط مقومات الحياة الكريمة، فلا تعليم، ولا رعاية صحية، ولا حق في الزواج أو التنقل، ولا حتى أمل حقيقي في الاستقرار.
وأكدت أن القانون الدولي يجب أن يُفعّل بروح إنسانية حقيقية، وأن تُجبر الدول الموقعة على احترام الالتزامات التي وقّعت عليها، فكرامة الإنسان ليست شأنًا سياديًا، بل مسؤولية دولية، وحماية اللاجئين لا يجب أن تكون خيارًا خاضعًا لحسابات سياسية، بل واجبًا قانونيًا وأخلاقيًا لا يقبل التفاوض.
وشددت على أن اللاجئ لا يطلب امتيازات، بل فقط حقه في أن يُعامل كإنسان، في أن تُعترف له بوثيقة تفتح له الأبواب لا أن تُغلقها، في أن يخرج من نفق العدم القانوني الذي أُجبر على العيش فيه. وأضافت: "حين يُعامل جواز سفر إنسان على أنه غير صالح للحياة، فنحن لا نتحدث فقط عن أزمة لجوء، بل عن انهيار في منظومة العدالة الدولية نفسها."
وختمت حديثها بالقول إن جواز السفر الميت هو مرآة لفشلنا المشترك، وعلينا أن نعيد للوثائق معناها، وأن نمنح اللاجئين ما هو أكثر من التعاطف، أن نمنحهم حق الحضور القانوني، والاعتراف، والحياة.